The Official Website of Kareem Essayyad
Navigation  
  Home
  Kareem Essayyad
  Register
  Poetry
  SHORT STORIES
  => رُوتيلا دُورا
  => الموت.. قيصريًا
  NOVELS
  ESSAYS
  Critical Studies
  Philosophical Researches
  الترجمات
  Guestbook قاعة الضيافة
  Map / Satellite image
رُوتيلا دُورا

رُوتِيلا دُورا

منذ أعوام حكى أخي عن تلك الحشرة.

 

كان أخي الأكبر منذ عشرة أعوام ونيف يدْرس علوم الأحياء في إحدى كليات الأقاليم، لم يكن موفقًا جدًا في الدراسة، كان يكره دراسته والبيئة نصف الريفية التي هي نوع خاص من عشوائية زحف الطبيعة الريفية المجاورة على مدينة الإسمنت وأرض الأسفلت، كان يكره الطبيعة البرية الزراعية التي كأنما تهدد وجوده من بعيد، وتشعره أنه إنسان صناعي غريب عن هذا العالم، وأزادت كراهيته للعلم من كراهيته لذلك العالم الذي وجد نفسه فيه مضطرًا للحياة والصراع والنجاح.

 

كم سهرنا ليلاً في نهاية كل أسبوع ليحكي لي عن تلك البيئة المغايرة لمن تعود حياةَ المدينة على صخبها وسرعتها وازدحامها، والغريب أنه كان يجد حياة الريف أكثر عسرًا وخشونة بكثير، بل وأكثر تلوثًا، وكان يعتبر حياة المدينة حياةً معقّمة أكثر أمنًا من الناحية الصحية.

 

أقول هذا لأنني لم أكن أصدقه.

 

قبيل سفره الأول إلى كليته بالقرب من الأرياف لم يكن يطيق حياة المدينة أيضًا، وكان يتمنى مبيدًا بشريًا للخلاص من جميع مشكلات العالم دفعة واحدة، حتى ظننت-وظنَّ-أنه سيجد خلاصه في البعد عن المدينة، ذلك الخلاص الذي لم يتحقق على الإطلاق.

 

لم أعرف المشكلة بالضبط، لكنه ازداد مع الفصول الدراسية الأولى انطواءً وعزلة، وأصبح قليل المرح والكلام والأكل، وزاد من عجبي شكايته المستمرة من الثلوّث هناك أكثر من شكايته من صعوبة الدراسة، وكنت أسأله عن أي تلوث يتحدث، فيصمت.

 

لكني كنت أعرف أنه سيتكلم، الصمت والموت لا يستمران إلى الأبد، هذه من المسلمات البشرية الغريزية، وبالرغم من ثقتي تلك إلا أنني كنت أتعجل اعترافه، فقد صار غريبًا، شيئًا فشيئًا أشعر بآخَر، لا أدري كيف أوضح، لكنه تدريجيًا لم يعد نفسه، وبدا لي أنه مع الوقت يصل إلى النتيجة نفسها، أية لحظات رهيبة تلك التي كنت أراه فيها يقف لدقائق وحيدًا أمام المرآة، وجهه يحمل نظرة سوداء تمزج الحزن بالتوجس بالحيرة، ثم يتحرك، فإذا ما خرج ورآني نظر لي نظرة حائرة زائغة، فكرة حمقاء راودتني، لو كان قد جن فأنا أكثر جنونًا، دخلت مرةً الحجرة فور خروجه ونظرت إلى المرآة بعدما تأكدت من غيابه، طبعًا لم أرَ غيري.

 

حتى كانت تلك الليلة التي بدأ فيها السر يكشف عن ذاته، كان نائمًا وكنت ساهرًا إلى ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، كان كل شيء هادئًا والوقت في مكانه، وفجأة أحسست بجلدي ينتفض، لقد صرخ أخي فجأة بأعلى صوته وهو نائم:

-"يا ناااااااس"

 

كان قلبي قد اختلت ضرباته لحظة، لم يكن عمري في تلك الآونة يتجاوز السنوات العشر، لكنني أذكر بوضوح نبرة صوته، وهرولة أمي إلى الحجرة في فزع، وحين جلستْ إلى جواره كان يحدق فيها مشدوهًا فزعًا، وهي تسأله عما حدث، كان يرتجف، لكن رجفته لم تمنعه من أن يقول كلمة واحدة:

-"الحشرة"

 

وبالرغم من سني الصغيرة فقد استغربت رد فعل أمي، حيث ازدردتْ ريقها، ثم سألت في توجس:

-أية حشرة؟ قل.. ما شكلها؟

لكنه ظل صامتًا.

 

وفي الوقت الذي كانت الأمور فيه تزداد إلغازًا استطعت أن أعرف جزءًا من الحقيقة، لقد كانت جلسة مطوّلةً بين أخي وأمي، كان يحكي لها كيف أنه كان في أحد الاختبارات في كليته يجلس جوار النافذة الزجاجية، وكيف انتفض فجأة حين سمع شيئًا ثقيلاً يرتطم بالزجاج من الخارج، فحدق لثوانٍ دون أن يتبين كنه هذا الشيء، جسم أحمر زاهٍ مشعر بحجم قبضة اليد، ذو ستة أقدام ثابتة على الزجاج من الخارج، لم يفهم شيئًا حتى بدأ الشيء يتحرك في بطء وأدرك أنه انحبس بين لوحي الزجاج المتحركين أفقيًا، ثم تحرك الجسم حتى حافة اللوح حتى وجد المخرج، ومن ثم فرد أجنحته وطار إلى الحقول البعيدة.

 

بعد ذلك بدأ يرى الحشرة في كل مكان، خمّن أنها شكل من أشكال الحياة الغريبة المتناثرة هناك، لكنه بحث في مراجعه وعلى شبكة الإنترنت كثيرًا دون أن يجد شيئًا مشابهًا، وكان يؤكد أنها مغطاة بالشعر، ومع ذلك تبدو في بعض أجزائها مغطاة بجلد تنبض تحته بعض العروق، يبدو أنه رآها كثيرًا فعلاً، كانت تنتظره كل ليلة حين يعود إلى سكنه المؤقت في الريف، لا يعرف كيف دخلت في كل مرة، يراها على إحدى المناضد، أو الكتب، أو حين يذهب إلى الفراش على الملاءة، يراها للحظة كأنما جاءت لتلقي عليه نظرة، ثم تطير إلى غرفة أخرى فلا يجدها ثانية في الليلة نفسها، سأل عنها الناس، سأل رفاقه في الكلية حين يراها في قاعة الدرس، لكنهم اتهموه بالتخريف، لا وجود لشيء كهذا، لا في السكن، ولا في الكلية، ولا في المراجع، ولا في العالم.

 

لكنه كان موقنًا أنها موجودة.

 

في الليلة المذكورة حلم بها في كل مكان، تطير في الهواء، تمشي على الأرض، على الجدران، تدخل وتخرج من النوافذ، تحط على أكتاف ورءوس الناس في الشوارع، لكن أحدًا لا يبصرها غيره.

 

كان يصفها باكيًا:

-إنها بشعة، ضخمة، مغطاة بشعر وجلد، تترك أقدامها الخدوش على كل شيء، الزجاج، الجدران، تهتّكُ قماش الملاءات التي تقف عليها، لقد..لقد..انظري..الخدوش على ذراعي وعنقي، هذا دليل أنها موجودة، أنا لا أتوهم.

-نعم أنت لا تتوهم.

-لكنني خائف.

 

كثرت مناقشاته مع أمي، وعرفتُ معظم ما عرفتُه من هذه القصة من وراء الباب المغلق بإحكام، كانا يرفعان صوتيهما بلا حذر، فقد كنت طفلاً، وكان أبي متوفيًا منذ زمن بعيد، كانت لهجة أخي مع الأيام تزداد حدة مع أمي وهو يتهمها بشيء لا أفهمه، وكان أحيانًا يهتف:

-أنتِ مِن هناك، لم تقولي أنك من هناك.

 

صار مهووسًا بعلم الحشرات، عشرات الصفحات من الشبكة تتزاحم على شاشة الكمبيوتر، وكلها مصطلحات وصور لحشرات متنوعة، كانت أمي تنصحه بالعودة إلى دراسته، لكنه كان يصرخ:

-أعود لهذا العالم الملوّث؟

وكلما ازداد صراخًا ازدادت توسلاً.

 

كما لاحظت أن شعر لحيته وشاربه يتساقط أو يقلّ، لقد بدأ يتحول إلى شاب أمرد، وكنت أرى ذلك طريفًا، وكان هو يراه شيئًا متوقعًا.

 

لقد كانت أيامًا سوداء، كانت أمي تبكي بلا انقطاع، وهو يزداد عصبية، ويوشك أن ينهار، ونظراته أمام المرآة تزداد دهشة، صار مغلقًا رهيبًا مربدّ الوجه، لا يطيق أحدًا أو شيئًا، وكنت أتعامل معه ومع أمي في تلك الفترة بكثير من الخوف، وضاع الأمان من عالمي، فجأة أحسست أن لي عالمًا خاصًا بدوري، وأنني مثل الكائن الرخو في القوقعة عليّ ألا أمد زوائدي خارج حدود جسدي ونفسي كيلا أتألم، وكنت أظن أن كل ما يحدث على غرابته ولحداثة سني مشكلة تقليدية بين أخي وأمي، حتى ألقيت نظرة ثانية على المرآة.

 

هذه المرة استطعت اختلاس نظرة واضحة للمرآة أثناء تأمل أخي لنفسه فيها، فماذا رأيت مختلفًا عن المرة الأولى؟ لا شيء مختلفًا، بمعنى الكلمة، أي أنني رأيت نفسي في المرآة مكان صورته، وبعد انصراف أخي تأملت صورتي في المرآة مرة أخرى لأجدها مطابقة عدا الملابس فحسب، لم أفهم أي شيء، لماذا تتحول صورة أخي في المرآة لصورتي؟ لكنني ربطت هذا تلقائيًا مع تساقط شعر لحيته وشاربه وتحول ملامحه التدريجي الطفيف، إن أخي يرى صورتي في المرآة، ويتحول إليها ببطء، ويمكن القول أنه لا يتحول إلى صورتي أنا على وجه الدقة، بل إلى صورة تشبهني وأصغر منه سنًا، صورته هو حين كان في سنٍ تقاربني، إنه ينمو بالعكس.

 

تستطيع أنت أن تتساءل عن معنى كل هذا، وعن صلة هذا بهلوساته عن الحشرة، وعن موقف أمي الغريب، وربما تستطيع تكوين استنتاج ما، لكنني لم أكن أملك هذه العبقرية أو هذا الترف حتى للتساؤل، لقد دارت الأحداث بسرعة وقسوة، فقد انتقلت تحت رغبة أمي للعيش لدى جدتي بصفة مؤقتة، وفي تلك الفترة عرفت أن أخي تم نقله لمستشفى للأمراض العقلية، وأنه توفي هناك.

 

استمرت الحياة كما لا بد، من كل ما حكيت لم أنس قط مشهدي في المرآة مرتديًا ثياب أخي يليه مشهدي أيضًا مرتديًا ثيابي، وظل هذا المشهد يخيفني ويؤرقني لأعوام تالية، كانت الأعوام التالية نفسها هادئة كالهدوء الذي يلي العاصفة، والتحقت بكلية العلوم وتخصصت في دراسة الحشرات لأسباب لا تخفى، كنت طالبًا متميزًا لأنني كنت مشغولاً بدافع أصيل خفي، أو غير واعٍ، أو أنني أتناساه عمدًا، هذا الدافع أن أفهم ما حدث، كلما استرجعت الأحداث استنتجت أن مفتاح هذا اللغز يبدأ بالحشرة.

 

كنت كذلك شغوفًا بالأدب، هذه نقطة يجب أن أذكرها لأنها كانت سببًا غير مباشر في فهم كل شيء، ففي رواية الإخوة كارامازوف يقرأ سمردياكوف أوراق أخيه إيفان خلسةً ومن ثم يعتنق آراءه، جربتُ الحبكة نفسها، وبدأت التفتيش الدقيق في أوراق أخي الأخيرة دون علم أمي، وكانت النتائج إيجابية.

 

منذ عشرة أعوام كاملة فهم أخي سر ما يعانيه ودونه في أوراقه بخط يمزج الجنون بالطفولة، لن ننسى أنه كان يصغر عمليًا، وكان خطه عند نهاية الأوراق أشبه بخط طفل في العاشرة، أشبه.. أشبه بخطي في تلك السن، بل أشبه بخطه هو في السن نفسها، لقد كان عملاً بطوليًا وهو يعاني الجنون والطفولة المتزايدة من أجل بحثه المصيري عن الهويّة.

 

استنتجتُ مما عرفته أن أمي لا بد وأنها تخلصت منه بطريقة ما في المستشفى، وعرفت بالتالي أن علي أن أحذر منها، لقد صارت تراقبني، وهي دقيقة التوقع، فأنا أيضًا بدأت أرى الحشرة، لكني لن أنزعج ولن أخبرها، لن أنسى أنها لم تعد أمي بالضبط، هي بالأحرى نصف أم، ومما عرفت من الأوراق أن عائلة أمي وسكننا الأول كان في البلدة نفسها التي كان أخي يدرس فيها، والذي قادته المصادفة إليها ثانيةً للدراسة، وهو يحسب نفسه يراها للمرة الأولى.

 

كل ذلك لم يمنعني أن أصبح واحدًا من أهم أساتذة علم الحشرات في مصر، ويمكن لك أن تقرأ في العديد من الموسوعات والمراجع المتخصصة ما نشرته مستفيدًا من دراسات أخي ودراساتي، أول وصف علمي لتلك الحشرة:

 

"روتيلا دورا Rutila Dura: الحمراء الجافية، المقطع الأول يشير إلى لونها، والثاني إلى سلوكها العدائي تجاه أطفالها وميلها لالتهامهم، الحشرة نصف الآدمية التي تتكاثر عبر الإنسان وأول مثال معروف للتطفل الجيني، تضع بيضها في جسد أم بشرية في حالة ولادة، وتنقل البويضات إلى الطفل المولود والأطفال الذين يلونه، وتُحدث تغييرات جينية غير محدودة قبل العشرين، لكنها تفصح عن نفسها بعد ذلك، سواءً في الأم، أو في الطفل الأول، أو في الأطفال التالين، ولوحظ أن الأطفال المصابين يصغرون عمريًا وسلوكيًا مع الوقت ليبدأوا دورة حياة جديدة قبل أن تبدأ صفاتهم الحشرية في الظهور وممارسة حياتها.

 

ويجدر بالذكر أن المريض (...) قد دفع حياته ثمنًا غاليًا لنقف على نقطة البداية الصحيحة لهذا الكشف، فمات بطلاً.. وحشرة!"

***

 

 
   
 
  Kareem Essayyad

Create your badge
 
منهج تربوي مقترح لفاوست-النيل الثقافية  
   
Today, there have been 1 visitors (1 hits) on this page!
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free